سوريا- بين نظام بائد وثورة شعبية ومسارات إقليمية متناقضة

المؤلف: ماجد بن عبد العزيز التركي09.28.2025
سوريا- بين نظام بائد وثورة شعبية ومسارات إقليمية متناقضة

سوريا، أرض الحضارات العريقة، شهدت فترات عصيبة ومحطات قاسية تركت بصمات عميقة على نسيجها الاجتماعي والسياسي. يمكن تقسيم هذه الفترة إلى مرحلتين رئيسيتين:

  • المرحلة الأولى: بدأت في عام 1971، عندما اعتلى حافظ الأسد سدة الحكم في سوريا. منذ ذلك الحين، ترسخت الطائفية "العلوية" في مفاصل الدولة، مُهمِّشةً بذلك باقي مكونات الشعب السوري ذي الجذور التاريخية الضاربة في القدم. رزح السوريون تحت نير الاستبداد والقمع، الذي طال كافة جوانب حياتهم؛ الأمنية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية. توارثت عائلة الأسد وأتباعهم من النصيريين والبعثيين السلطة والنفوذ والمناصب العليا، في حين لم ينل الشعب السوري سوى المعاناة، والقهر، والفقر، وعالمًا قاسيًا من السجون والظلم والاستبداد الممنهج.
  • المرحلة الثانية: بدأت عندما نفد صبر الشعب السوري، وتزامن ذلك مع انطلاق شرارة الثورات الشعبية العربية في عدة دول. في منتصف مارس من عام 2011، اندلعت الثورة الشعبية السورية، بعد أن اعتقد البعض أن السوريين قد وصلوا إلى مرحلة الاستسلام والخنوع. خرجت المظاهرات في مختلف المدن السورية مطالبة بالحرية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء حالة الطوارئ التي كانت تكبل البلاد.

ومع مرور الوقت، ارتفع سقف المطالب تدريجيًا، ليصل إلى المطالبة بإسقاط نظام بشار الأسد. بحلول شهر يوليو من العام نفسه، تحولت الاحتجاجات إلى اعتصامات مفتوحة في الساحات الرئيسية في بعض المدن. لكن هذه المظاهرات السلمية ووجهت بقمع وحشي من قبل قوات النظام، مما أدى إلى نزوح الآلاف من السكان المحليين ولجوئهم إلى الدول المجاورة، وفي مقدمتها تركيا، والسعودية، ولبنان، والأردن.

ومع تفاقم الأزمة، بدأت الانشقاقات تظهر في صفوف الجيش النظامي، وفي مطلع أغسطس، أعلن عن تأسيس الجيش السوري الحر. بدأت المواجهات العسكرية محدودة النطاق بين قوات النظام والمعارضة، ثم توسعت تدريجيًا لتصل إلى مستوى المعارك المباشرة بحلول نهاية العام وبداية عام 2012.

إلا أن المأساة ازدادت تعقيدًا بدخول قوى إقليمية أجنبية على خط المواجهات، حيث دعمت إيران النظام من خلال نشر ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية ذات الطابع الطائفي، بينما دعمت إسرائيل "قوات سوريا الديمقراطية/قسد"، وقدمت تركيا الدعم لقوى المعارضة السنية.

وخلف هذه القوى الإقليمية، تدخلت كل من أمريكا وروسيا في حراك عسكري متناقض، أثر على كافة أرجاء سوريا، وتسبب في دمار هائل، وقتل، وتهجير، ولجوء. فقدت الساحة السورية استقرارها، وتضاءلت الآمال في إيجاد حل، خاصة مع بوادر عودة اندماج النظام السوري في المنظومة العربية، وكأن شيئًا لم يكن، في محاولة للحفاظ على ما تبقى، ومعالجة المشاكل وفقًا لتطورات الأحداث.

وفي ظل الخيارات المحدودة المتاحة، والتي كانت جميعها خيارات غير مرضية، وجد الموقف العربي نفسه في حالة من الصمت المحرج، وسط رهانات تحيط بها أجواء إقليمية مضطربة.

ولكن، فجأة، تحركت "هيئة تحرير الشام" من الشمال إلى دمشق، معلنةً انتهاء المرحلتين السابقتين (نظام الحكم والثورة الشعبية)، وكأنها تقول للشعب السوري: دمشق بين أيديكم، فافعلوا ما تشاؤون.

هنا انتهت الحكاية ظاهريًا، لكنها بدأت في العمق، لتفتح باب النقاشات والتساؤلات حول مستقبل سوريا.

وأول ما يجب التأكيد عليه هو: عدم الانشغال بالأحداث المتسارعة، والتركيز على البحث عن الحقائق الكامنة وراءها، والتي غالبًا ما تتجلى في المتناقضات والخفايا. واستحضار المقدمات الأساسية هو مفتاح لفهم الواقع.

وبناءً على ذلك، فإن الأحداث التي قادتها "المعارضة السورية" تمت بسرعة وسهولة، وحققت مكاسب كبيرة، لكنها في الوقت نفسه تخفي حقائق تحتاج إلى كشف وتحقق.

يمكن ملاحظة شيء من ذلك في التناقضات التي رافقت أحداث "انتصار الثورة على النظام"، ومن أبرز هذه التناقضات:

  • التوافق الأميركي/الروسي على ما جرى: حيث لم يقع تصعيد بينهما، بل تحدثت روسيا بهدوء مركزة على مصالحها في قواعدها "طرطوس، وحميميم"، وأمريكا أعلنت عن إمكانية رفع "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب!
  • التوافق الإسرائيلي/الإيراني "شكليًا" على الأحداث: وانصراف كل منهما للعناية بمصالحه دون الخوض بعمق في مجريات الحدث الأهم "سقوط النظام" و"انتصار الثورة"، رغم أن الطرفين خصمان للثورة وراعيان للنظام بأشكال مختلفة، بل لم يستخدم مسؤولو النظام الإيراني مسميات تنظيم إرهابي، وأشاروا إلى ما جرى باعتباره "الثورة السورية"؟!
  • الانسجام التركي مع بيان المجموعة الوزارية العربية في "العقبة": رغم ما كان بينهم من خلافات وقت الأزمة.
  • إعلاميًا: تبدلت المسميات في مختلف القنوات الفضائية: وتم استخدام مصطلح "الثورة السورية" بدلًا من مسميات التنظيمات الإرهابية، حتى لدى القنوات الإعلامية العربية المعروفة بموقفها المتشدد ضد التنظيمات الإسلامية، بل شهدنا توددًا وتقارب مع هذه التنظيمات.

بالعودة إلى جذور الأزمة السورية، نجد أنها تفاقمت في ظل مسارات رئيسية؛ إيرانية وإسرائيلية وتركية، بالإضافة إلى الدعم الروسي للنظام وإيران، والدعم الأمريكي للمصالح الإسرائيلية من خلال "قسد"، والدعم التركي للثورة في تشكيلاتها السنية، مع موقف خليجي متردد بين دعم رغبة الشعب في التغيير ومحاربة التنظيمات الإرهابية.

وفي ضوء المستجدات الحالية، تبدو الحلقة وكأنها اكتملت، وعادت الأزمة إلى نقطة البداية، وهي "إرادة شعبية لتغيير النظام الطائفي الفاسد". ولكن، يبقى الملف السوري معلقًا بثلاثة مسارات رئيسية، قد تشكل جغرافيا وسياسة مزدوجة (سورية/عراقية). هذه المسارات هي:

  • المسار العربي السوري: المتمثل في قيادة الثورة والحكومة الانتقالية، وتشكيل النظام السوري الجديد.
  • المسار التركي: الذي يسعى لاستعادة نفوذه في شمال الجزيرة العربية من خلال مناطق الشمال السوري.
  • المسار الإسرائيلي: الذي يهدف إلى توسيع نفوذه في العمق السوري لتغيير معالم الأرض، ورسم حدود فاصلة "مؤقتة" بدلًا من الحدّ الفاصل في الجولان، والتحرك من خلال الطائفة الدرزية لشرعنة حضوره في العمق الجنوبي الغربي لدمشق.

القوة المؤثرة في هذه المسارات هي المصالح المشتركة "الروسية/الأمريكية" في الموارد السورية (النفط والغاز، والفوسفات، والقمح). والقاعدتان الروسيتان "طرطوس، وحميميم" لن تسمحا بالمساس بهذه المصالح، مما قد يدفع سوريا إلى دوامة جديدة من الصراعات، وإعادة تنشيط التنظيمات المسلحة، واستغلال بقايا أذرع إيران لخلق فوضى. فقد كانت "التنظيمات المسلحة الخارجة عن القانون" هي الأداة التي استخدمتها القوى الدولية والإقليمية للعبث في مناطق الصراع المماثلة (ليبيا، العراق).

الدور الخليجي المنتظر

لعبت دول الخليج أدوارًا مهمة في "الثورة السورية"، وتحملت أعباء سياسية واقتصادية كبيرة. ولكن، المرحلة الحالية تتطلب من الدبلوماسية الخليجية أن تكون أكثر فاعلية في المسارات التالية:

  1. التفاهم مع الجانب الروسي لتحييد "بشار الأسد" وإبعاده عن المشهد بشكل كامل: فمن المحتمل أن تتحرك "بقايا النظام"، التي تمثل "الدولة السورية العميقة" لإرباك المشهد السياسي والأمني.
  2. التفاهم مع الجانب الأمريكي لضبط الطموحات الإسرائيلية: ومنعها من تجاوز القرارات الدولية، والحد من تدخلها في العمق السوري.
  3. مراقبة التحركات الإيرانية: والعمل على تطهير العمق السوري من بقايا الميليشيات التابعة للنظام، ودعم إجراءات "الحكومة الانتقالية" لضبط التركيبة السكانية، وإزالة آثار الأزمة.

في الختام

من السابق لأوانه الجزم بتقييم الأحداث ومآلاتها، ولا يمكن التنبؤ بشكل قاطع بما ستؤول إليه الأمور، على الرغم من وجود مؤشرات إيجابية تتفق مع تطلعاتنا، والمخاوف الأمنية التي تتشابه مع التجارب السابقة. يبقى الأمل معلقًا على حصافة الشعب السوري، ووعيه بمخاطر المرحلة، وإيماننا بعدالة الله.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة